اعلم أن تقصير الأمل مع حب الدنيا متعذر وانتظار الموت مع الاكباب عليها غير متيسر إذا كان مملوءاً بشيء لا يكون لشيء آخر محل فيه ولأن الدنيا والآخرة كضرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى وكالمشرق والمغرب بقدر ما من أحدهما تبعد من الآخر.
قال اللّه تعالى: (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً).
وقال اللّه تعالى: (فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِالله آلْغَروُرُ).
وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " إن الدنيا حلوة خضرة وإن اللّه مستخلفكم فيها فينظر كيف تعلمون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل النساء " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه " ، وعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها " فقال رجل يا رسول اللّه أو يأتي الخير بالشر فسكت النبيُّ حتى ظننا أنه ينزل عليه فقال فمسح عنه الرحضاء وقال " أين السائل " وكأنه حمده، وقال " إنه لا يأتي الخير بالشر وأن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم إلا أكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم عادت فأكلت وإن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ويكون شهيداً عليه يوم القيامة " ويعني مثال كثرة المال كمثال ما ينبت في فصل الربيع فإن بعض النبات حلوة في فم الدابة وهي حريصة على أكله لكن ربما تأكل كثيراً فيحصل بها داء من كثرة الأكل فتموت من ذلك الداء أو تقرب، فإن لم تأكل الدابة إلا بقدر ما يطيقه كرشها فتأكل وتترك الأكل حتى ينهضم ما أكلت وحتى تبول وتروث روثاً وتحصل لها خفة من خروج الروث والبول منها فلا يضرها الأكل فكذلك من يحصل له مال كثير فإن الحص على المال وتكثير الأكل والشرب والتجمل فيقسو قلبه وتتكبر نفسه ويرى نفسه أفضل من غيره ويحتقر الناس ويؤذيهم ولا يخرج حقوق المال من الزكاة وأداء الكفارات والنذور وإطعام السائلين والأضياف وحقوق الجار فمن كانت هذه صفته لا شك أن المال شر له ويبعده عن الجنة ويقربه من النار ومن أدى حقوق المال ولا يحتقر الناس ولا يفتخر عليهم ولا يشتغل بجمع المال بحيث يفوت عنه طاعة ويحسن إلى الناس فماله خير له كما قال عليه السلام: " نعم المال الصالح للرجل الصالح " فإذا عرفت هذا فقد عرفت أن الخير والشر لا يحصل للرجل من المال بل نفس الرجل التي هي تصرف المال فيما فيه خير له أو شر له، قاله المظهري وقال صلى الله عليه وسلم: " لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال " وقال صلى الله عليه وسلم: " إن اللّه تعالى يقول: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإن لم تفعل ملأت يدك شغلاً ولم أسد فقرك " . وحكي أن رابعة العدوية رضي اللّه عنها كانت تقول " لكل يوم ليلة وهذه ليلتي أموت فيها فلا تنام حتى تصبح وتقول للنهار كذا فلا تنام حتى تمسي. وقال أبو بكر بن عياش: ختمت القرآن في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة، وصام ابن المعتمر أربعين سنة وقام ليلها، ولم يضع سليمان التيمي جنبه عشرين سنة. وصلى عبد القادر الجيلاني رحمة اللّه عليه الصبح بوضوء العشاء أربعين سنة، ولزم الغزالي الأنقطاع ووظائف أوقاته على وظائف الخير بحيث لا يمضي لحظة منها إلا في طاعة من التلاوة والتدريس والنظر في الأحاديث خصوصاً البخاري، وإدامة الصيام والتهجد ومجالسة أهل القلوب إلى أن أنتقل إلى رحمة اللّه تعالى، ولم يضع النووي رحمه اللّه جنبه على الأرض نحو سنتين وكان لا يضيع له وقتاً في ليل ولا نهار إلا في وظيفة من الأشتغال بالعلم حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه يشتغل في التكرار والمطالعة.
وحكاياتهم في المبادرة الى الخيرات كثيرة يكفي من وفقه اللّه ما ذكرنا وكل ذلك من نتيجة قصر الأمل.اعلم أن مما يعينك على ذكر الموت أن تذكر من مضى من أقاربك وإخوتك وأصحابك وأترابك الذين مضوا قبلك كانوا يحرصون حرصك، ويسعون سعيك ويعملون في الدنيا عملك فقصفت المنون أعناقهم، وقلعت أعراقهم وقصمت أصلابهم، وفجعت فيهم أحبابهم فأفردوا في قبورهم موحشة وصاروا جيفاً مدهشة والأحداق سالت والألوان حالت والفصاحة زالت والرؤوس تغيرت ومالت مع فتان يقعدهم ويسألهم عما كانوا يعتقدون، ثم يكشف لهم من الجنة والنار مقعدهم إلى يوم يبعثون، فيرون أرضاً مبدلة وسماء مشققة وشمساً مكورة ونجوماً منكدرة وملائكة منزلة وأهوالاً مذعرة وصحفاً منتشرة وناراً زفرة وجنة مزخرفة فعد نفسك منهم ولا تغفل عن زاد معادك ولا تهمل نفسك سدى كالبهائم ترتع ولا تدري (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).
(إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ.فِي الْحَمِيِم ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)
يا باني القصر الكبير ... بين الدساكر والقصور
ومجرد الجيشَ الذي ... ملأ البسيطة والصدور
ومدوخ الأرض التي ... أعيت على مر الدهور
أما فرغت فلا تدع ... بنيان قبرك في القبور
وانظر إليه تراه كي ... ف إليك معترضاً يشير
واذكر رقادك وسطه ... تحت الجنادل والصخور
قد بددت تلك الجيو ... ش وغيرت تلك الأمور
واعتضت من بين الحري ... ر خشونة الحجرالكبير
وتركت مرتهناً به ... لا مال ويلك ولا عشير
حيران تعلن بالأسى ... لهفان تدعو بالثبور
ودعيت باسمك بعدما ... قد كنت
تدعى بالأمير